
حبيل رشيد
يقول الباحث حبيل رشيد :
«الحكامة ليست مجرد تقنية إدارة، بل هي فنّ تحويل السلطة إلى قدرة على تمكين الإنسان من العيش بكرامة داخل مجاله».
في خضم التحولات العميقة التي يعيشها المغرب اليوم، وبين الحاجة المتزايدة إلى تعزيز اللامركزية والجهوية المتقدمة، يظهر اسم عبد الوافي لفتيت بوصفه واحدًا من أبرز الوجوه التي جسدت روح الحكامة الترابية. ليست الحكامة عنده مجرد ممارسة إدارية روتينية، بل مشروع شامل، رؤية دقيقة، وفهم عميق للتراب والإنسان معًا، حيث تتقاطع السلطة مع المسؤولية، والقانون مع الواقع الاجتماعي، والتوجيه مع التمكين المحلي.
عبد الوافي لفتيت ليس مجرد وزير داخلية يشغل منصبه لولايتين متتاليتين، وهي سابقة في تاريخ المغرب الحديث، بل هو نموذج لرجل المرحلة، الذي جمع بين الخبرة الميدانية والوعي الاستراتيجي، بين الصرامة القانونية والفهم الدقيق للنسيج المجتمعي، بين ضبط الأمن وتحفيز التنمية، بين الدولة والمواطن. إنه يقرأ التراب كما يقرأ الناس، ويصيغ السياسات كما يصيغ أبعاد التنمية المستدامة، فلا يترك للحظ مجالًا في إدارة شؤون التراب والإنسان، بل يجعل كل قرار مدروسًا بعناية، وكل تدبير متوازنًا بين القانون والحاجة.
منذ توليه مسؤولية وزارة الداخلية في 5 أبريل 2017، تزامن حضوره مع مرحلة دقيقة من تاريخ المملكة، مرحلة اتسمت بارتفاع مستوى المطالب الاجتماعية، وتعقد البنية الترابية، وظهور تحديات أمنية وتنموية جديدة. وقد كان من الواضح منذ البداية أن الرجل لا ينظر إلى منصبه كسلطة فقط، بل كأداة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين المركز والهامش، بين النص القانوني ونبض المواطن.
الحكامة الترابية في مفهوم لفتيت ليست مجرد تطبيق للقوانين أو إصدار للأوامر، بل هي مهارة متقنة في تنظيم الفضاء، توجيه الموارد، وحفظ توازن العلاقات بين المؤسسات والجماعات المحلية. إنها قراءة مستمرة للتفاوتات المجالية، وتوقع لرهانات التنمية، وفهم لطبيعة المجتمع المغربي المتنوع. في هذا الإطار، يمكن القول إن الرجل جسد معنى ماكس فيبر للسلطة: السيطرة القانونية المشروعة التي تتحول إلى أداة لتنظيم المجتمع لا لفرض القسوة عليه.
لقد عمل لفتيت منذ البداية على تعزيز أطر الجهوية المتقدمة، معتبرًا أن التنمية لا تتحقق من المركز فقط، بل حين تمتلك الجماعات المحلية القدرة على اتخاذ القرار وإدارة مواردها بكفاءة. هذا التوجه لم يأتِ كحمل شعاري، بل كتطبيق عملي يعتمد على الموازنة الدقيقة بين المسؤولية والتمكين، بين القوانين العامة والخصوصيات المحلية، بين استراتيجيات الدولة الوطنية والاحتياجات المجالية.
على مستوى الأمن، لم يكن اهتمامه مقتصرًا على ضبط الحدود أو مراقبة التهديدات التقليدية، بل تجاوز ذلك إلى بناء نموذج أمني يواكب التغيرات المجتمعية، ويستجيب لمتطلبات السلم الاجتماعي، ويأخذ بعين الاعتبار تنوع الواقع المغربي الثقافي والاقتصادي والجغرافي. ومن خلال هذه الرؤية الشمولية، أصبح قطاع الداخلية تحت قيادته ليس مجرد جهاز رقابي، بل منظومة حكامة متكاملة، تجمع بين القانون والتنمية والأمن والاستقرار الاجتماعي.
إن أعظم ما يميز تجربة عبد الوافي لفتيت هو الجمع بين العقل الإداري والفكر الاستراتيجي، بين التطبيق الصارم للقانون والمرونة في التعامل مع الواقع، بين السلطة والتمكين المحلي. ففي كل مشروع تنموي، وفي كل إصلاح إداري، يظهر التوازن الذي يسعى الرجل لتحقيقه: لا مركزية عشوائية، ولا سلطة مركزية مطلقة، بل هندسة دقيقة تربط بين الإرادة السياسية والواقع الاجتماعي.
التجربة العملية لفتيت تحمل دروسًا عميقة حول مفهوم الحكامة الترابية: أولها أن السلطة لا يمكن أن تكون فعالة دون فهم عميق للنسيج الاجتماعي والمجالي، وثانيها أن القانون وحده لا يحقق التنمية ولا يحفظ الاستقرار، بل يتطلب مزيجًا من الذكاء الإداري والبصيرة الاجتماعية، وثالثها أن إدارة التراب ليست مجرد توزيع للموارد، بل صناعة لبيئة تنموية مستدامة تتيح للمواطنين ممارسة حقوقهم بشكل فعلي.
ومن أبرز محطات مسيرته ما تعلق بتطوير الجهوية المتقدمة، حيث وضع استراتيجيات لتقوية قدرات المجالس المحلية، وتعزيز دورها في اتخاذ القرار، وتسهيل ارتباطها بالموارد الوطنية، بما يعكس فهمه العميق للحكامة كعملية متعددة المستويات، لا كإجراء إداري رتيب. هذا التوجه ينسجم مع الرؤية الملكية التي تؤكد على أن الحكامة الجيدة تمنح الناس القدرة على العيش بكرامة داخل فضائهم الخاص والعام، ولا تتركهم رهائن للبيروقراطية أو للسلطة المركزية فقط.
عبد الوافي لفتيت، إذن، ليس مجرد وزير داخلي، بل هو عقل إداري استراتيجي، قادر على تحويل المفاهيم القانونية إلى أدوات عملية، وعلى تحويل النظرية إلى فعل ميداني ملموس. وهو بذلك يرسخ مفهوم الدولة الفعالة، التي لا تُقاس فقط بوجودها على الورق أو في النصوص، بل بقدرتها على النفاذ إلى الحياة اليومية للمواطنين، وعلى صناعة التوازن بين السلطة والمجتمع، بين القانون والتنمية، بين الأمن والحرية.
كما أن تجربته تؤكد أن الحكامة الترابية ليست مهمة فردية، بل مشروع مؤسسي مستدام، حيث يتم بناء القدرات داخل الإدارة، وإعادة هندسة الإجراءات، وتحفيز روح المسؤولية على جميع المستويات، من الإدارة المركزية إلى الجماعات المحلية، بما يحقق تناغمًا بين الرؤية العليا للدولة واحتياجات المواطن العادي.
في هذا السياق، يمكن القول إن عبد الوافي لفتيت جسد نموذجًا نادرًا للوزير الذي يجمع بين الشجاعة في اتخاذ القرار، والذكاء في التقدير، والوعي العميق بالمسؤولية الاجتماعية. إنه رجل يرى في التراب والمجال ليس مجرد خطوط على الخريطة، بل شبكة حية من العلاقات، تتطلب قراءة مستمرة، وتقييمًا دقيقًا، وتدخلًا حكيمًا يوازن بين القانون والإنصاف، بين الأمن والتنمية، بين المركز والهامش.
في الخلاصة، فإن مسار عبد الوافي لفتيت يترك أثرًا لا يُمحى في تاريخ الإدارة المغربية الحديثة، ليس فقط لأنه وزير داخلية ناجح، بل لأنه رمز للحكامة الترابية بمعناها الحقيقي: تلك الحكامة التي تجعل الدولة أكثر قربًا من الإنسان، وأكثر قدرة على فهم الواقع، وأكثر ذكاءً في إدارة الفضاء العام، وأكثر عدالة في توزيع الموارد والمسؤوليات، وأكثر حكمة في موازنة القوة مع الشرعية، وأكثر صرامة في القانون مع مراعاة الروح الإنسانية التي تُضفي على السلطة معنى وهدفًا.
إن عبد الوافي لفتيت، بهذا العمق الإداري والفكري، يظل أيقونة للحكامة الترابية، نموذجًا للوزير الذي يفهم أن النجاح في إدارة الدولة لا يقاس بعدد القرارات أو التوقيعات، بل بمدى قدرة هذه القرارات على تحويل التراب إلى فضاء حقيقي للعيش الكريم، ومدى قدرة السياسة على نسج توازن بين القانون والمجتمع، بين السلطة والمواطن، بين المركز والهامش. إنه رجل المرحلة، ليس بالمعنى الزمني فحسب، بل بالمعنى البنيوي الذي يربط بين الدولة والإنسان، بين النص والواقع، بين السلطة والرؤية الاستراتيجية، ليصير اسمه مرادفًا لفن الحكامة الترابية في المغرب الحديث.

