شعيب خميس/ مشاهد بريس
لم تكن واقعة توقيف باشا بوسكورة مجرد إجراء إداري عابر، بل كانت الشرارة التي أعادت إلى الواجهة سؤالاً مركزياً في مسار الإصلاح بالمغرب: هل نحن مستعدون للانتقال من مرحلة “الاحتجاج على الشطط” إلى مرحلة “محاسبة المتورطين فيه”؟
القرار الذي اتخذه وزير الداخلية، ونفّذه عامل إقليم النواصر في ظرفيات دقيقة، لم يكن سوى خطوة أولى في درب طويل. خطوة تُعلن أن زمن العبث الإداري يشارف نهايته، وأن دولة الحق والقانون ليست شعاراً، بل التزاماً مؤسساتياً صارماً تجسّده توجهات جلالة الملك محمد السادس، الذي ما فتئ يؤكد أن الاستثمار خط أحمر، وأن الهيئات الترابية مطالبة باحترام القانون لا بتأويله وفق الأمزجة.
لكن الحقيقة اليوم أكبر من توقيف باشا، وأوسع من حدود بوسكورة: الاستثمار في المغرب تلقّى ضربة موجعة، والثقة التي بُنيت لسنوات تلقت رعشة غير مفهومة.
أولاً: الشطط ليس خطأً… الشطط خرقٌ للقانون وجريمة قائمة الأركان
ما جرى في “قصر الضيافة” لا يمكن توصيفه بـ”الهفوة” أو “الخطأ الإداري”. فالقرار الأحادي بهدم مشروع استثماري ضخم، دون احترام التدرج القانوني أو المساطر الواجبة، يدخل صراحة ضمن جرائم الشطط في استعمال السلطة، التي ينجم عنها:
مساس بمصالح الخواص،
إتلاف للاستثمارات،
تشويه لصورة الدولة،
وضرب لمبدأ الأمن القانوني.
والخطر هنا ليس فقط في فعل الهدم، بل في الرسالة التي قد تصل إلى الداخل والخارج: أن قرار موظف واحد قادر على تعطيل مناخ الأعمال برمّته.
ثانياً: التوقيف إجراء احترازي… أما المحاسبة فمسار آخر تماماً
الرأي العام اليوم لا ينتظر تعليقاً إدارياً، بل ينتظر وضوحاً ومسؤولية. توقيف الباشا خطوة، لكنها غير كافية ما لم تتبعها:
- متابعة قضائية تُشرف عليها النيابة العامة المختصة،
- تحديد دقيق للمسؤوليات الفردية والجماعية،
- إحالة الملف على القضاء الإداري والجنائي عند الاقتضاء،
- إصدار عقوبات فعلية لا تكتفي بحماية الواجهة أو إسكات الغضب.
فالضرر هنا لم يكن رمزياً، بل مادياً واقتصادياً. نحن أمام مشروع تُقدّر قيمته بملايير الدراهم، وفرص شغل أُجهضت، ورسالة سلبية وصلت إلى المستثمرين المغاربة والأجانب في ظرفية حساسة جداً.
ثالثاً: لا يجب أن يتحمّل المواطن خطايا مسؤول أخطأ
من غير المقبول – لا قانوناً ولا عدالة – أن تغطي خزينة الدولة، أي المال العام، نتائج قرارات طائشة أو متعسّفة.
المبدأ العادل يجب أن يكون واضحاً:
من يخطئ… يدفع من جيبه.
وهذا معمول به في دول متقدمة تعتمد:
مسطرة الرجوع على الموظف (Action récursoire)،
تحميل المسؤول المتسبب في الضرر التعويض شخصياً،
وعدم تصفية أخطاء السلطة على حساب المواطن دافع الضرائب.
آن الأوان لتفعيل هذا المسار قانونياً، بلا مجاملات ولا اعتبارات زبونية.
رابعاً: الواقعة ليست خطأً إدارياً… إنها ضربة لهيبة الدولة
التبعات تتجاوز حدود المشروع. فالواقعة تهدد ركائز أساسية:
الميثاق الجديد للاستثمار،
رؤية المغرب التنموية 2030،
التوجيهات الملكية لخلق مناخ جاذب للأعمال،
الاستعدادات الكبرى لاحتضان أهم التظاهرات الرياضية العالمية،
ثقة المستثمرين الدوليين.
لا يمكن أن يدفع المغرب مليارات لتحسين صورته الاقتصادية، ثم يهدم بكل بساطة مشروعاً استثمارياً بأمر إداري منفرد.
خامساً: المطلوب اليوم… إجراءات حقيقية تعيد الثقة
- المتابعة القضائية الفورية لكل من شارك واتخذ القرار.
- التحصيل من الأموال الخاصة للمتورطين لتعويض الأضرار.
- بلاغ رسمي شفاف يضع الرأي العام أمام الحقائق.
- إصلاح عميق للسلطة الترابية وتحديد حدود تدخلها في الاستثمار.
- تمكين النيابة العامة من حماية المستثمرين ضد التعسف الإداري.
- إعادة تعريف علاقة العامل والقياد والباشوات بالاستثمار لتصبح علاقة دعم لا عرقلة.
الخلاصة: المغرب الجديد لن يبنى بالتوقيفات… بل بالمحاسبة
واقعة بوسكورة ليست حادثاً عابراً. إنها اختبار سياسي وقانوني وأخلاقي لمدى قدرة الدولة على القطع مع ممارسات ماضٍ انتهى زمنه.
إذا كنا نريد:
مغرباً تنافسياً،
جاذباً للاستثمار،
محترماً للقانون،
ومواكباً للرؤية الملكية الحديثة…
فلا بد من إنهاء عهد “التوقيف الإداري” كإجراء تجميلي، والانتقال إلى مرحلة المسؤولية الكاملة والعقوبات الحقيقية.
المغرب الجديد لا مكان فيه للشطط، ولا لقرار بلا سند، ولا لسلطة بلا محاسبة.
وواقعة بوسكورة… يجب أن تكون بداية، لا نهاية.

