
المحجوب زضيضات//مشاهد بريس
لا يمكن أن نؤسس لمغرب قوي وعادل بينما تستمر أيادي الفساد في العبث بخزائن الدولة، وتحويل خيرات الوطن إلى غنائم تُقتسم خلف الأبواب المغلقة، بدل أن تكون رافعة للتنمية وركيزة لبناء المستقبل.
فالأوطان لا تُبنى بالشعارات الرنانة، بل بالأيادي النظيفة التي تصون المال العام، وبالمؤسسات التي تضع مصلحة الشعب فوق أي اعتبار شخصي أو حزبي.
الفساد المالي والإداري في المغرب ليس مجرد ظاهرة هامشية، بل نزيف داخلي يضعف جسد الدولة من الداخل ويقوض الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. عندما تُستنزف الموارد العمومية، تُغلق أمام الشباب أبواب الأمل، تتعثر المشاريع، وتتسع الفوارق الاجتماعية، وتفقد الخطط الحكومية بريقها مهما كانت براقة.
معطيات حديثة من الواقع المالي والتنموي (2025)
التقارير الرسمية الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، والتي عرضت أمام البرلمان في يناير 2025، تكشف بوضوح أن المشكلة ليست في الموارد، بل في سوء تدبيرها وضعف الحكامة:
قطاع الماء والمشاريع الكبرى:
• تأخر تنفيذ سدود استراتيجية مثل تودغى، تيداس، أكدز، فاصك، وبعضها شهد فسخ صفقات، ما أثر على الأمن المائي والزراعة.
• مشاريع تحلية المياه لم تدخل الخدمة بعد رغم الاعتمادات المالية الكبيرة، بينما يستمر الطلب على مياه السقي في الارتفاع.
ورشة الجهوية المتقدمة:
• نسبة تفعيل الميثاق الوطني للاتمركز الإداري لم تتجاوز 36% حتى منتصف 2024، ولم تشهد زيادة كبيرة في بداية 2025.
• العقود بين الدولة والجهات لتنفيذ المشاريع التنموية شهدت بطئاً واضحاً، حيث لم يتجاوز معدل المشاريع في طور الإنجاز 20%.
• تأخر تعيين رؤساء التمثيليات الإدارية القطاعية والجهوية أعاق تمرير الاختصاصات وتنفيذ المشاريع.
المالية العمومية والضغط على المديونية:
• العجز الميزانياتي المتوقع لعام 2025 يُقدر بحوالي 4,5% من الناتج الداخلي الخام، مع استمرار الضغط على المالية العمومية بسبب الإصلاحات المتأخرة، خاصة في منظومة التقاعد.
• الدين العمومي الإجمالي بلغ نحو 69,5% من الناتج الداخلي الخام، مع استمرار الحاجة إلى إصلاحات هيكلية عاجلة لضمان استدامة التمويل.
الاستثمار العمومي والكفاءة:
• الاستثمار العمومي وصل إلى مستويات مرتفعة (أكثر من 119 مليار درهم في 2025)، لكن مردوده على التنمية الجهوية ما زال محدوداً.
• ترشيد النفقات وضبط الأولويات أصبح أمراً ملحاً لضمان استدامة المالية العمومية وتحقيق نتائج ملموسة على الأرض.
ورش الحماية الاجتماعية:
• تعميم التأمين الإجباري عن المرض والتعويض عن فقدان الشغل يتطلب موارد مالية ضخمة (38–53 مليار درهم بين 2025–2026)، ويستدعي كفاءة عالية في إدارة الميزانية لضمان استدامة هذه الإصلاحات.
هذه الوقائع الرسمية ليست مجرد أرقام، إنها صورة حقيقية لما يحدث على الأرض، وتؤكد أن الفساد وسوء التدبير ليس ظواهر هامشية، بل عقبات هيكلية تعرقل التنمية وتفرغ الخطط من مضمونها، وتجعل المواطن يفقد الثقة في جدوى الإصلاحات.
حماية المال العام ليست شعاراً انتخابياً، ولا مطلباً شعبياً فحسب، بل الشرط الأول لأي إصلاح حقيقي. لا إصلاح دون مساءلة، لا تنمية دون نزاهة، ولا عدالة دون شفافية.
عندما يصبح المال العام محروساً بالقانون والضمير، يمكن فتح أبواب الأمل أمام الشباب وتمويل المشاريع الكبرى دون ارتهان للمديونية.
لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار للكفاءة والنزاهة ولمنح الفرصة للطاقات الوطنية المخلصة القادرة على مواجهة هذه التحديات بجرأة ومسؤولية. المغرب لا ينقصه المخلصون، بل يحتاج إلى أن يُفتح أمامهم باب المشاركة الحقيقية في تدبير الشأن العام، بعيداً عن الولاءات والمحسوبية.
السكوت عن نهب المال العام خيانة صامتة للوطن. والمثقف الحامل للشهادة العليا ليس دوره أن يتفرج من بعيد، بل أن يكون في الصفوف الأولى لمعركة الوعي والمساءلة.
مغربنا يستحق أن تكون خزائنه محروسة من العبث، ومفتوحة فقط لمشاريع عادلة ومستدامة.
المال العام أمانة، ومن يحميه اليوم…يصون مستقبل الدولة غداً.