
شعيب خميس/ مشاهد بريس
في عصر تسوده السرعة الرقمية وتتنافس فيه الوسائل الإعلامية على “السبق الصحفي”، أصبح التحقق من صحة المعلومات الرسمية تحديًا وجوديًا للصحافة. فالمعلومة الرسمية ليست دائمًا مُطلَقة الصحة، وقد تكون مُغرضة أو ناقصة أو حتى مُضللة. هنا تبرز أهمية التحقق كعمود فقري للعمل الصحفي، يحمي المصداقية ويبني جسور الثقة بين الجمهور والإعلام.
أهمية التحقق الصحفي: بين المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية
1 حماية الجمهور من التضليل:
المعلومات الرسمية قد تُستخدم كأداة لترويج روايات أحادية الجانب أو تبرير سياسات خلافية. التحقق يمنع تحول الصحافة إلى مكبر صوت للسلطة دون مساءلة.
2 التمييز بين الصحافة والدعاية:
إعادة نشر البيانات الرسمية دون تمحيص يُذيب الحدود بين العمل الصحفي المستقل وبين حملات العلاقات العامة، مما يفقد الإعلام دوره الرقابي.
3 تجنب العواقب القانونية والاجتماعية:
نشر معلومات غير دقيقة – حتى لو كانت “رسمية” – قد يتسبب في أضرار مادية أو معنوية لأفراد أو مؤسسات، ويعرض الوسيلة الإعلامية لمساءلات قضائية.
4 تعزيز الشفافية:
التحقق يُجبر المؤسسات الرسمية على تحسين جودة بياناتها، علمًا بأن أي تناقض سيُكشف عبر تقصي الصحفيين.
الكارثة المزدوجة: ماذا يحدث عند إهمال التحقق؟
تفشي “الأخبار الزائفة الرسمية”:
كالأرقام المُبالغ فيها حول الإنجازات التنموية، أو التقارير الصحية المُخففة لأزمات.
تآكل ثقة الجمهور:
دراسة لـ “معهد رويترز” (2023) أظهرت أن 62% من المتابعين يشككون في دقة الأخبار المنقولة عن مصادر حكومية دون تحليل نقدي.
التأثير على صنع القرار:
كتغطية غير دقيقة لقوانين جديدة قد تُشكّل رأيًا عامًا معارضًا دون فهم السياق الكامل.
أدوات التحقق: من النظرية إلى التطبيق
1 مبدأ “التثليث” (Triangulation):
مقارنة المعلومة الرسمية مع مصادر مستقلة (خبراء، وثائق مسربة، بيانات دولية).
- مثال: عند الإعلان عن معدل البطالة، يُقارن الرقم الرسمي بآراء اقتصاديين واستطلاعات قطاع خاص.
2 التحقق الرقمي:
- استخدام منصات مثل “FactCheck.org” أو “Google Earth” للتحقق من الصور ومقاطع الفيديو الرسمية.
أدوات كشف التلاعب بالصور (FotoForensics) أو تحليل ميتاداتا الملفات (EXIF Data).
3 السياق التاريخي والمقارن:
- مقارنة الإحصائيات الرسمية الحالية بأرقام سابقة أو بدول مشابهة.
مثال: إذا أعلنت وزارة الصحة انخفاض الوفيات في كارثة ما، يُراجع الصحفي بيانات الكوارث المماثلة زمنيًا وجغرافيًا.
4 الحوار مع الضحايا والمتضررين:
التحقق من صحة تقرير رسمي عن تحسن الأوضاع المعيشية عبر مقابلات ميدانية مع السكان.
5 الاستعانة بقواعد البيانات المفتوحة:
- مثل منصة “World Bank Open Data” أو “إحصائيات الأمم المتحدة” لمقارنة البيانات الرسمية المحلية بالسياق العالمي.
بناء ثقافة التحقق: من الفرد إلى المؤسسة
تدريب مكثف على “المنهج الاستقصائي السريع”:
ورش عمل لتمكين الصحفيين من تقييم المصادر خلال ساعات، بدلًا من انتظار تحقيقات طويلة.
تأسيس وحدات تحقق متخصصة داخل الغرف الإخبارية:
كفريق “سياق” في صحيفة الغارديان، الذي يراجع كل ما تنشره المنصة عن الأزمات الدولية.
تعاون إقليمي ودولي:
شبكات مثل “أريج” (Arab Reporters for Investigative Journalism) تتيح تبادل الخبرات ونماذج التحقق عبر الحدود.
حوكمة داخلية:
اعتماد سياسات تحظر نشر أي خبر رسمي دون الحصول على تعليق من طرف ثالث مُعترف به.
تحذيرات من واقع الأخطاء
بعض الحكومات قللت من أعداد الوفيات، لكن تحقيقات صحفية (مثل تقرير “نيويورك تايمز” عن الهند 2021) كشفت عبر مقارنة بيانات الجنائز مع الأرقام الرسمية أن الأرقام الحقيقية أكبر 10 أضعاف.
خلال الحرب السورية، استندت وسائل إعلام عالمية على بيانات رسمية دون تحقق كافٍ، ما أدى إلى نشر ادعاءات عن “هجمات كيماوية” تبين لاحقًا عدم دقتها، وفق تقرير “Bellingcat”.
ان التحقق ليس رفاهية.. إنه صحافة أو لا شيء!
التحقق من المعلومات الرسمية ليس خطوة إضافية، بل هو جوهر المهنية الصحفية. في زمن تتسابق فيه الحكومات والشائعات على الهيمنة على العقل الجمعي، يصبح الصحفي حارسًا للوعي المجتمعي. كما قال الصحفي الاستقصائي كارل برنشتاين: “الحقيقة ليست مجرد وقائع، بل هي ما تتبقى بعد إخضاع الوقائع للتدقيق الشديد”.