
بقلم: زينة اعرارة
البلاغ الملكي الأخير الذي خُصص لقطاعي الصحة والتعليم لا يمكن قراءته بوصفه مجرد إعلان عن أرقام مالية جديدة، بل هو رسالة سياسية واجتماعية عميقة، تعيد رسم ملامح الدولة المغربية كما يريدها الملك: دولة تجعل من الإنسان مركزا لكل مشروع تنموي. فحين يوجَّه الاستثمار نحو المدرسة والمستشفى، فذلك يعني أن التنمية الحقيقية لا تقاس بما يُشيَّد من طرق وبنايات، بل بما يصان من كرامة وبما يفتح من آفاق أمام المواطن.
تخصيص غلاف مالي يفوق 140 مليار درهم لهذين القطاعين، وإحداث أكثر من سبعة وعشرين ألف منصب جديد، ليس مجرد رقم في قانون المالية، بل هو تعبير عن إرادة سياسية تسعى إلى جعل الحق في التعليم والعلاج واقعا ملموسا لا شعارا مؤجلا. فقد أدركت الدولة أن أي إصلاح اقتصادي أو اجتماعي لا يمكن أن يصمد ما لم يُبنَ على قاعدة بشرية مؤهلة، وعلى مواطن يتمتع بالصحة والمعرفة، لأن الإنسان المريض أو الجاهل لا يستطيع أن يشارك في بناء وطن قوي.
منذ سنوات، والملك يدعو إلى إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية والمستشفى العمومي، باعتبارهما الفضاءين اللذين يختبر فيهما المواطن معنى المواطنة الفعلية. والبلاغ الأخير يندرج في هذا المسار الذي يربط الإصلاح الاجتماعي بالإصلاح الإداري، ويؤكد أن الجهوية المتقدمة لا تكتمل إلا حين تُوزع الخدمات الأساسية بعدل بين الجهات، بحيث لا يبقى المركز غنيا بالأطباء والمدرسين بينما تعاني الأطراف من الخصاص والإهمال. فإحداث مراكز جامعية استشفائية في أكادير والعيون وبني ملال والرشيدية، هو في حد ذاته خطوة رمزية نحو تحقيق الإنصاف الترابي الذي ظل مطلبا ملحا لسنوات طويلة
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في الإعلان عن الأرقام ولا في وضع الخطط، بل في ترجمة تلك التوجهات إلى واقع يومي يلمسه المواطن. فالتاريخ القريب علمنا أن كثيرا من الإصلاحات تتعثر عند أول حاجز إداري أو تغرق في بطء التنفيذ ودوامة البيروقراطية. إن زيادة الميزانية لا تضمن وحدها التغيير إن لم تتغير معها العقليات، وإن لم تُربط المسؤولية بالمحاسبة، وتُمنح الكفاءة الإدارية المكانة التي تستحقها.
البلاغ الملكي، في عمقه، هو دعوة إلى عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن: عقد يقوم على المسؤولية المتبادلة، فالدولة تضمن الخدمات والعدالة، والمواطن يشارك في صيانتها بالعمل والوعي والانخراط الإيجابي. إنه انتقال من منطق الدولة الراعية التي تُوزع المساعدات، إلى منطق الدولة المنصفة التي تمنح الجميع فرصا متكافئة للعيش الكريم.
فالمغرب الذي يتجه إليه الملك هو مغرب يقاس بنوعية الإنسان الذي يُكوّنه، لا بعدد الأبراج أو الطرق التي يُشيّدها. إن الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يجد الطفل في أقصى الجبال مدرسة تفتح له أفق المستقبل، وحين يجد المريض في الصحراء طبيبا ومرفقا يليق بكرامته، وحين يشعر المواطن أينما كان أن الدولة قريبة منه بقدر قربها من العاصمة.
البلاغ الملكي حول الصحة والتعليم هو إذن أكثر من بيان رسمي، إنه مرآة تُظهر جوهر المشروع المجتمعي المغربي القائم على العدالة والكرامة والإنصاف. وهو تذكير بأن بناء الوطن لا يتم بالأوراق والميزانيات فقط، بل بالضمائر التي تعمل على تجسيد تلك التوجهات في الواقع اليومي. فحين تتحول هذه الإرادة السياسية إلى ممارسة جماعية، سنكون قد وضعنا الأسس الحقيقية لدولة اجتماعية متوازنة، قوامها الإنسان أولا وأخيرا.

