
بقلم: البوزيدي عبد العالي // مشاهد بريس
تُمثل العدالة الدستورية إحدى الركائز الأساسية التي تُبنى عليها دولة الحق والقانون. وقد نص دستور 2011، باعتباره الوثيقة المرجعية العليا للنظام القانوني المغربي، على مجموعة من الآليات والضمانات التي تهدف إلى تأمين سمو الدستور وتحصين الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. وفي هذا السياق، يكتسي القرار الصادر عن المحكمة الدستورية بتاريخ 4 غشت 2025 بشأن قانون المسطرة المدنية أهمية بالغة، ليس فقط من حيث مضمونه، بل أيضًا من حيث دلالاته المؤسسية والدستورية العميقة.
أولاً: القرار الدستوري وتكريس الرقابة المعيارية على النصوص التشريعية
قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية عدد من المقتضيات الواردة في قانون المسطرة المدنية المحال عليها في إطار الرقابة القبلية. وهو قرار يُجدد التأكيد على الوظيفة الحمائية للمحكمة الدستورية، باعتبارها الحارس الأمين على سمو الوثيقة الدستورية، والمخولة دستوريًا بفرض مطابقة القوانين للمبادئ الدستورية، سواء من حيث الشكل أو المضمون.
فالرقابة الدستورية، في بعدها الوظيفي، ليست فقط عملية تقنية، بل هي ممارسة جوهرية للحد من تعسف السلطة التشريعية، وضمان انسجام التشريعات مع روح الدستور، لا سيما في ما يتعلق بحقوق التقاضي، ضمانات الدفاع، ومبادئ المحاكمة العادلة، التي تعتبر من المرتكزات الأساسية لدولة القانون.
ثانيًا: المسطرة الجنائية… النص الغائب عن الرقابة الدستورية
رغم أهمية قانون المسطرة المدنية، فإن الملاحظة الأساسية تكمن في كون قانون المسطرة الجنائية، والذي يُلامس بشكل مباشر الحريات الفردية، لم يُعرض بعد على المحكمة الدستورية، إما قبل صدوره أو عن طريق آلية الدفع بعدم الدستورية، وهي المفارقة التي تثير تساؤلات مشروعة.
فقانون المسطرة الجنائية يُنظم الإجراءات التي يتم من خلالها حرمان الأفراد من حرياتهم، سواء في إطار التوقيف، الاعتقال الاحتياطي، المحاكمة، أو تنفيذ العقوبات. ومن ثم، فإن إخضاعه للفحص الدستوري كان سيسهم في حسم عدد من النقاشات الفقهية والقضائية حول دستورية بعض مقتضياته، خاصة تلك المتعلقة بالحبس الاحتياطي، سرية التحقيق، حدود تدخل النيابة العامة، وغيرها من النقاط التي لا تزال مثار جدل واسع داخل الأوساط الحقوقية والقانونية.
ثالثًا: تأخر إصدار قانون الدفع بعدم الدستورية… تعثر أم تعطيل؟
من المظاهر التي تدعو للانشغال، في هذا الإطار، استمرار غياب القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، وهو النص الذي يُعد أداة أساسية لتوسيع نطاق الرقابة الدستورية لتشمل الرقابة البعدية، وجعل الأفراد فاعلين مباشرين في حماية الدستور.
وقد نص الفصل 133 من دستور 2011 على إمكانية الطعن بعدم دستورية أي قانون يُطبق في نزاع معروض على القضاء، إذا ما اعتبر أحد الأطراف أن هذا القانون يمس بحق من الحقوق أو الحريات التي يضمنها الدستور. غير أن تفعيل هذا الحق ظل معلقًا، بسبب عدم إخراج القانون التنظيمي المنظم له إلى حيز الوجود، رغم مرور أزيد من عقد على اعتماد الدستور الجديد.
ويُعد هذا التأخر ضربًا من ضروب التعطيل غير المبرر لنص دستوري، ويؤشر على نوع من التردد أو التوجس المؤسسي من توسيع مجال الرقابة القضائية على النصوص التشريعية، عبر تمكين المواطنين من حق إثارة الدفع أمام المحاكم.
رابعًا: الأثر المؤسساتي والسياسي لهذا التأخر
يتجاوز أثر هذا التعطيل الجانب التقني أو التشريعي، ليطال جوهر العلاقة بين المواطن والدولة، خاصة في ظل تزايد الحديث عن أولوية إصلاح منظومة العدالة وتعزيز الثقة في القانون والمؤسسات.
إن غياب القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية يُضعف فعليًا آلية مهمة من آليات الضبط الدستوري، ويُبقي المحكمة الدستورية أسيرة للإحالات القبلية أو الطلبات الرسمية الصادرة عن الجهات السياسية المخولة بذلك، وهو ما يحد من استقلاليتها الوظيفية ويُقلص من إمكانيات تدخلها لحماية الحقوق والحريات، خاصة في النزاعات العينية.
خامسًا: نحو أفق دستوري جديد
الرهان اليوم لم يعُد فقط في إصدار قانون الدفع بعدم الدستورية كالتزام تقني مؤجل، بل في جعله أداة فعالة بيد المتقاضي، تُمارَس بشكل سلس وفعال، وتخضع لضمانات واضحة لتجنب التعسف أو إفراغ النص من مضمونه.
كما أن المحكمة الدستورية مدعوة، من خلال اجتهاداتها المقبلة، إلى توسيع مجال الرقابة على القوانين ذات الصلة بالحقوق، وتأويل النصوص الدستورية بما يضمن أكبر قدر من الحماية للحقوق والحريات، في انسجام تام مع المعايير الكونية المتعارف عليها، خاصة تلك المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.
إن قرار المحكمة الدستورية بشأن قانون المسطرة المدنية يُعد خطوة إيجابية في مسار تفعيل العدالة الدستورية، غير أن استكمال هذا المسار يظل رهينًا بإصدار القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، وتوسيع نطاق الرقابة القضائية على دستورية القوانين، بما يضمن حماية فعلية وناجعة للحقوق والحريات.
فلا معنى لدستور يُقر بالحقوق في نصوصه، إذا لم تُترجم هذه الحقوق إلى آليات قضائية عملية تتيح للأفراد الدفاع عنها والتمسك بها أمام القضاء. وهنا، تبرز العدالة الدستورية ليس كخيار قانوني، بل كضرورة ديمقراطية لبناء دولة القانون والمؤسسات.