عزوف الشباب الياباني عن الزواج والإنجاب يضع مستقبل البلاد في خطر؟

2022-10-27T19:42:35+00:00
2022-10-27T19:42:38+00:00
خارج الحدود
Bouasriya Abdallah27 أكتوبر 2022wait... مشاهدةآخر تحديث : منذ 3 أسابيع
عزوف الشباب الياباني عن الزواج والإنجاب يضع مستقبل البلاد في خطر؟

مشاهد بريس

تواجه اليابان حاليا مشكلة تتشابه إلى حد كبير مع أخرى تواجه الشباب العربي، وهي قلق وضغط العمل الشديد في مهن متأرجحة غير مستقرة، حيث تشهد البلاد ارتفاعا ضخما في نسب العمالة المؤقتة. تركز “ألانا سيميولز”، المحررة في ذا أتلانتك، على الانعكاسات الثقيلة لهذه المشكلة اجتماعيا، والمتمثلة في عزوف الشباب الياباني عن الزواج والإنجاب، وهي حالة تستحق التأمل في ظل تشابهات لا تخطئها العين مع واقعنا العربي.

على الرغم من أن اليابان واحدة من أكثر دول العالم تقدما، فإن معدل المواليد الجدد آخذ في الاحتضار، إذ شهد العام الماضي لأول مرة مفاجأة وصل فيها عدد المواليد إلى أقل من مليون، في حين انخفض في المقابل عدد السكان بأكثر من 300.000 فرد. يعزو البعض السبب وراء هذه الظاهرة إلى قلة اهتمام الشباب الياباني بالعلاقات الحميمة، بجانب النساء اللاتي انشغلن بحياتهن المهنية وفضَّلن العمل على الزواج وتكوين أسرة.

غير أن أحد أكثر الأسباب إثارة للدهشة في بلد متقدم مثل اليابان هو صعوبة حصول الشباب على وظائف جيدة. يُنظَر إلى الرجل في اليابان على أنه العائل الوحيد للأسرة، لذا فالافتقار إلى وظائف جيدة قد يجعل الرغبة في الزواج والإنجاب تكاد تكون مطلبا مستحيل المنال، وهو ما يرميهم هم وشركاؤهم في حالة من العزوف عن الزواج لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليفه، وهذا يزيح الستار عن حياة اليابانيين التي تتسم بطابع تختلط فيه الدهشة بالمأساة.

لعنة العامل الحر

في السياق ذاته، تقول “آن أليسون”، أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية في جامعة ديوك الأميركية: “إن هذه الظاهرة تتفق مع الاتجاه السائد في جميع أنحاء العالم من حيث المستقبل المحفوف بالمخاطر، وانخفاض معدل المواليد، وحتى انخفاض معدل الارتباط؛ ويعزو معظم الناس السبب الأول في ذلك إلى انعدام الأمن الوظيفي والاقتصادي”، غير أن ذلك يبدو مفاجِئا في اليابان باعتبارها بلدا يزدهر فيه الوضع الاقتصادي بقوة لدرجة تصل فيه معدلات البطالة إلى أقل من 3%.

يكمن السبب الرئيسي وراء تقلص الفرص الاقتصادية في اليابان في ارتفاع نسبة العمالة غير المستقرة. اعتادت اليابان لمدة طويلة بعد الحرب أن توفر لمواطنيها وظائف مستقرة بمزايا متعددة ورواتب يمكن أن يُعوَّل عليها حتى سن التقاعد، ولكن بشرط أن يبذلوا في سبيل ذلك جهودا مستميتة في عملهم، غير أن الوضع تَبدل الآن كثيرا وفقا لما يقوله “جيف كينغستون”، الأستاذ بجامعة تمبل اليابانية والمؤلف للعديد من الكتب المختصة بشؤون اليابان.

يرى كينغستون أن هناك 40% من القوى العاملة في اليابان لا تشغل وظائف مستقرة بشركات جيدة توفر رواتب منتظمة، بل على العكس، يشغل هؤلاء العمال وظائف مؤقتة بدوام جزئي مع رواتب متدنية لا تنطوي على أي مزايا (المشكلة أن هؤلاء العمال المؤقتين يظهرون في الإحصاءات الحكومية على أنهم موظفون بدوام كامل). ما زاد الطين بلّة أنه لا يمكن سوى لـ20% فقط من هؤلاء العمال الحصول على وظائف مستقرة، ليصبح الثمن الذي يدفعه الباقون هو قلقا متواصلا ينبع من أنهم أبعد ما يكونون عن تحقيق ما يتطلعون إليه، وعن هذا يقول كينغستون: “انخفض عدد العمال المنتظمين في وظائف مستقرة في اليابان في الفترة ما بين عامَي 1995 و2008 إلى ما يقرب من 3.8 مليون عامل، في حين زاد عدد العمال الذين يشغلون وظائف غير منتظمة بمقدار 7.6 مليون عامل”.

يُطلَق أحيانا على هؤلاء العمال المؤقتين في اليابان اسم “فريترز (freeters)”، وهي مزيج من كلمة “freelance (عمل حر)” والكلمة الألمانية “أربيتر (arbeiter)”، والتي تعني “عامل”، ليصبح المعنى في النهاية “العامل الحر”. وفقا لكينغستون، فإن بداية صعود العمال الذين يشغلون وظائف غير مستقرة في اليابان كان في بداية التسعينيات، عندما قررت الحكومة إجراء بعض التغييرات في قوانين العمل لاستغلال أكبر قدر ممكن من العمال المؤقتين والعمال المتعاقدين مع شركات وسيطة. ومع ظهور العولمة، ازداد الضغط على الشركات لخفض التكاليف؛ ما أشعل شهيتها بصورة متزايدة للاعتماد على قوى عاملة مؤقتة، وهو اتجاه تبنته اليابان بقوة خلال فترة الكساد العظيم.

تُعَد إحدى أعمق المخاوف والمصاعب التي يجابهها المواطن الياباني هي عدم حصوله على وظيفة مُستقرة يمكن أن يُعوِّل عليها، لأنه من دونها يفقد فرصته في أن يكون شريكا مرغوبا فيه للزواج.
على المنوال ذاته، يتفق “ماشيكو أوساوا”، الأستاذ بجامعة المرأة اليابانية، مع وجهة نظر كينغستون في أن التطور الذي اتخذته اليابان في نماذج توظيفها عاد بالسلب على حديثي التخرج الذين أصبحوا يواجهون صعوبة بالغة في تأمين موطئ قدم لهم على السلم الوظيفي. في ظل ثقافة تؤكد بشدة على أن الرجال هم المسؤولون عن إعالة الأسرة، وعندما تُضيف ذلك إلى حقيقة أن الحصول على وظيفة دائمة بات أكثر صعوبة، فإن ذلك كله يعبّد لهم سبيلا للبقاء رازحين تحت وطأة عدم الرغبة في الزواج، مع زيادة نفورهم عن الإنجاب.

تُعَد إحدى أعمق المخاوف والمصاعب التي يجابهها المواطن الياباني هي عدم حصوله على وظيفة مُستقرة يمكن أن يُعوِّل عليها، لأنه من دونها يفقد فرصته في أن يكون شريكا مرغوبا فيه للزواج. تعليقا على ذلك، يقول “ريوسوك نيشيدا”، الأستاذ في معهد طوكيو للتكنولوجيا، والذي كتب سابقا عن البطالة بين الشباب: “حتى لو رغب الطرفان في الزواج، وكان كلاهما يشغل وظيفة غير مستقرة، فعلى الأرجح سيُعارض الآباء إتمام هذا الزواج، لأن حصول الرجل على وظيفة مستقرة ودائمة هو أحد أهم الأعمدة التي تنهض عليها الثقافة اليابانية، فإذا تخرج المرء ولم يعثر على وظيفة ثابتة، فسرعان ما يُوصَم بالفشل”.

وفقا لكينغستون، فإن نسبة المتزوجين الذين هم في أوائل الثلاثينات من عمرهم ويشغلون وظائف غير مستقرة لا تتخطى 30%، في حين تصل نسبة المتزوجين الذين يعملون بدوام كامل في وظيفة مستقرة بإحدى الشركات إلى 56%. حتى النساء لم تَسلم من هذه الأزمات، فغالبا ما ينتهي بهن المطاف إلى شَغل وظيفة مؤقتة؛ ما يؤثر سلبا على الأسرة وتربية الأطفال، لأن ساعات العمل في الوظائف المؤقتة ليست مُحَددة، فضلا عن الأجور المتدنية. تُشير الإحصائيات إلى أن 70% من النساء اليابانيات يتركن العمل بعد الإنجاب في سبيل تربية الأطفال معتمدات على رواتب أزواجهن؛ ما يضعهن في أزمة حقيقية إن لم يكن للزوج وظيفة مستقرة براتب جيد.

تكررت شكاوى النساء في المدن اليابانية الكبرى بسبب صعوبة إيجاد شركاء يُضمرون في نفوسهم نية الزواج، لذا قررتْ شركة “زوي (Zwei)”، وهي شركة يابانية للمواعيد المُدَبرة، أن تقدم للنساء في المدن الكبرى دروسا في الطبخ وإعداد وجبات من محافظات أخرى مثل محافظة ميازاكي في جنوب اليابان. كان هدف الشركة الأساسي هو محاولة تعزيز إحساس مُحَبب في نفوس النساء تجاه الحياة خارج مدينة طوكيو، ومحاولة التوفيق بين النساء في المدن اليابانية الكبرى والرجال في مناطق أخرى من البلاد، لأن الرجال هناك يشغلون وظائف جيدة ومستقرة، ويُنظر إليهم على أنهم شركاء صالحون للزواج.

تمنح هذه الأنواع من الشركات إحساسا داعما للنساء، وتلطّف من شعورهن بالخزي إزاء الظروف المُضنية التي وقع ضحيتها الرجال وكانت سببا في عزوفهم عن الزواج. وعن هذا يقول “كوتا تاكادا”، موظف في شركة زوي: “لا يتمتع الرجال في هذه المدينة بالكثير من الرغبات الذكورية التي قد تحفزهم على الزواج، لذا تجد أغلبهم يتخلى بسهولة عن فكرة الزواج برمتها”. كما توصل أحد الاستطلاعات الحديثة، الذي أُجري على النساء والرجال غير المتزوجين في اليابان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و34 عاما، إلى أن ما يقرب من 70% من الرجال و60% من النساء لم يسبق لهم أن تواعدوا من قبل.

ثمة مؤسسات أخرى في اليابان تبذل جهودا في تتبع هذه الأزمة، منها مؤسسة “بوسي (POSSE)”، وهي مؤسسة صغيرة شكّلها خريجو الجامعات الذين رغبوا في إنشاء نقابة عمالية للشباب. وعن هذا يقول رئيس المؤسسة “هاروكي كونو”: ” يُعَد الأمر الأشد مدعاة للأسف أن بعض الشباب الذين يشغلون وظائف مؤقتة بات يُطَلَق عليهم (لاجئو مقاهي الإنترنت)”، باعتبار أن هذه المقاهي هي الأماكن المتاحة للإيجار طوال الليل، في الوقت الذي يعيش فيه آخرون مع والديهم أو في دار الرعاية الاجتماعية.

الشركات الظالمة

تُقدِّر المؤسسة أن متوسط دخل الأفراد الذين يعملون بوظائف غير منتظمة في اليابان هو 1800 دولار شهريا. قد يبدو مبلغا جيدا، غير أنه لا يتبقى منه الكثير بعد تسديد نفقات الإيجار والمصاريف الجامعية والتأمينات. كما أن حوالي ربع خريجي الجامعات في اليابان -وهي نسبة الخريجين من جامعات مرموقة- هم فقط من يحصلون على وظائف جيدة ومستقرة مدى الحياة، في حين يعاني الآخرون في وظائف مؤقتة.

تعليقا على ذلك، يقول “ماكوتو إيواهاشي”، أحد أعضاء المؤسسة: “في ظل اقتصاد لا تهدأ شراسته ولا تلين، فإن فكرة الزواج وبناء أسرة لا تخطر قط بذهن الشباب ممن هم في العشرينات، لدرجة أن معظمهم ينظر إلى الزواج على أنه فكرة حالمة وأبعد ما تكون عن الواقع”. لم يقتصر ارتفاع عدد الوظائف المؤقتة في اليابان بالسلب على من يشغلون هذه الوظائف فحسب، بل ضخّم من شعور الشركات بأن لها الحق في تضييق الخناق على موظفيها متى أرادت ذلك، وبالفعل حققت هذا الهدف بتغذية أفكار موظفيها بأنهم يجب أن يكونوا ممتنين للغاية لحصولهم على وظيفة مستقرة يتطلع إليها غيرهم كأنها حلم بعيد المنال.

لذا يرى “هاروكي كونو” أن الشركات تعلم جيدا أن الشباب في سن العشرينات والثلاثينات في أمسّ الحاجة للحصول على وظائف مستقرة، لذا تستغل هذا الوضع لتوظيف الكثير منهم ثم إجبارهم على العمل لساعات طويلة مقابل أجر منخفض باعتبار أن معظمهم سيضطر إلى قبول هذا الوضع لصعوبة وجود فرص أخرى أمامهم يمكن من خلالها تأمين معيشتهم.

حتى إن هناك مصطلحا يابانيا يُسمى “كاروشي (karoshi)”، ويعنى وفاة المرء نتيجة الإفراط في العمل. يرى كونو أن هذه الأزمة تفاقمت منذ الكساد العظيم، حينما أدركت الشركات مدى صعوبة عثور المواطنين على وظائف جيدة في اليابان، فقررت أن تُلقي بالكثير من الأعباء على عاتق الموظفين. ومع مرور الوقت، يمكننا ملاحظة إلى أي مدى تستنزف هذه الوظائف طاقتهم النفسية، وتستولي عليهم المرارة حتى تختنق بها أرواحهم.

في عام 2012، نشر كونو كتابا بعنوان “الشركات الظالمة: وحوش تلتهم اليابان (Evil Corporations: The Monsters Eating Up Japan)”، وخرج باليابانية تحت عنوان “Burakku Kigyo”، التي تُترجَم إلى “الشركات السوداء” أو “المُجحفة” أو “الشركات الشريرة”، لوصف الشركات التي تستغل العمال بهذه الطريقة. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا المصطلح شائعا للغاية في اليابان. ومن جانبه يقول كونو: “من الصعب العثور على هذه الوظائف بمرتب منتظم، لذا تستغل الشركات هذه النقطة قدر الإمكان”، فيصبح شعور الموظفين بالأمان الوظيفي أسير قبضة سياسات هذه الشركات.

حتى الوظائف “الجيدة” في اليابان لم تَسلم من وحشية نظام العمل الذي أصبح فيه أداء المرء هو المعيار الذي تقوم عليه البلاد في ظل اقتصاد لا تهدأ شراسته. صحيح أن الموظفين الذين يشغلون وظائف جيدة ينعمون بمرتبات كافية لإعالة أسرهم، غير أن الجانب المظلم من الحكاية هو عدم توافر أي وقت للمواعدة أو الانتباه للحياة العاطفية أو القيام بأي نشاطات أخرى باستثناء العمل والنوم وتناول الطعام. هذا الخلل في التوازن بين ما يحتاج إليه الإنسان الطبيعي وبين نظام العمل في اليابان هو السبب الرئيسي الذي يغذي الموظفين بشعور دائم بالتوتر والضغط النفسي.

اعتقد “جو ماتسوبارا”، أحد خريجي الجامعات الخاصة المرموقة في اليابان، والذي ينحدر من طبقة عاملة، أنه حقق الحلم الياباني عندما تخرج وحصل على وظيفة في شركة “دايوا هاوس (Daiwa House)”، وهي شركة متخصصة في تصميم وبناء المنازل. أعلنت الشركة عن نفسها باعتبارها بيئة عمل ممتازة، غير أن ماتسوبارا اصطدم بالواقع الأليم الذي أزاح الستار عن بيئة العمل الحقيقية، والتي كانت أبعد ما يكون عما روّجت إليه الشركة سابقا. فعلى الرغم من أن المواعيد الرسمية لمغادرة الموظفين عند السابعة مساء، فإن الشركة أجبرتهم على الاستمرار في العمل حتى وقت متأخر من الليل كل يوم تقريبا.

تطلب الشركة من الموظفين عادة تسجيل الخروج بحلول السابعة مساء حتى لو كان عملهم ما زال مستمرا، فضلا عن أجهزة الآيباد التي يستلمها الموظفون ليتمكنوا من الاستمرار في العمل حتى لو كانوا في اجتماعات خارج المكتب. وإن لم يسجل أحد الموظفين خروجه عند السابعة مساء، سرعان ما يتلقى مكالمة على هاتفه يطلبون منه بفظاظة التوقيع على الفور مع الاستمرار في العمل. بيد أن صرخة احتجاج الموظفين على الأوضاع القائمة لم تكن بالأمر اليسير. لا يشعر المرء بالمهانة إذا أخفق في بعض الأمور، لكنه يشعر بالمهانة فقط إذ استثمر كبرياءه وشعوره بقيمته في طموح وإنجاز محددين -كالحصول على وظيفة ما- ثم خاب سعيه، وهذا بالضبط ما يعيشه الموظفون في اليابان.

في السياق ذاته، يقول ماتسوبارا مُعلّقا على ذلك: “لا توجد علاقة أبدا بين مقدار الوقت الفعلي الذي يقضيه الموظف في العمل، وعدد الساعات المُسَجلة رسميا. مع هذه الفجوة الهائلة، يسيطر على الموظفين شعور بأنهم يسقطون يوميا في مستنقع وعر ومُضَلل”. لم يحصل ماتسوبارا مثلا على أي إجازة تقريبا، لأنه حتى في الأيام التي من المفترض أن يأخذها إجازة، كان يتلقى أوامر من الشركة لأخذ دروس في مجالات معينة لتطوير مهاراته والحصول على بعض الشهادات اللازمة. في ظل هذه الوتيرة المُرهِقة التي تسير عليها الحياة في اليابان، فإن مسألة المواعدة تكاد تكون أمرا أشبه بالمستحيل.

بعد عام واحد فقط، بدأت وطأة المرض تزداد حدة بسبب الساعات الطويلة والضغط النفسي الشديد الذي يتعرض له ماتسوبارا. كانت كل الطرق التي سلكتها الشركة تعبق بنذير الخطر على الصحة النفسية والجسدية للموظفين. واجه ماتسوبارا بعد مدة مشكلات في النوم، وبدأت الهلاوس والأصوات الغريبة تسيطر عليه، واكتسحته موجة من الاكتئاب بسبب التناقض المخيف بين توقعاته عن الوظيفة المستقرة التي كان يتلهف لها والتجربة الحقيقية التي خاض غمارها.

بيد أن الشركة بالنسبة إلى الموظفين باتت مكانا غير مبالٍ ذا أبعاد هندسية وحسب، وأُلغيت في حضرته أي معنى للألفة. أثقل ذلك كله كاهل ماتسوبارا، وزاد العبء عليه لدرجة أنه نُقل إلى المشفى عدة مرات في سيارة إسعاف، لأنه في لحظات كثيرة واجه صعوبة بالغة في التقاط أنفاسه، وسرعان ما انتهى به المطاف بانهيار عصبي. لم تتوقف الشركة عند هذا الحد، بل تمادت وأجبرته على الاستقالة وإعادة الأموال التي ادخرها جراء العيش في السكن الذي توفره الشركة التي أصبحت كيانا مرتبطا سيكولوجيا بمعاناة موظفيه.

يُدبر ماتسوبارا معيشته حاليا من نظام الرعاية الاجتماعية، وتعليقا على ذلك يقول: “كانت حياتي تسير بسلاسة وعلى نحو منتظم لا يُعَكِّر صفوها شيء، إلى أن جاءت شركت [دايوا هاوس] ودمرت حياتي بأكملها جراء الضغوطات التي أثقلت كاهلنا وأخذت تتعاظم يوما تلو الآخر”. المثير للسخرية حقا أنه من بين 800 موظف بدؤوا مع ماتسوبارا في هذه الشركة، استقال منهم بعد مدة قصيرة نحو 600 شخص، وهذه هي المشكلات التي يخلِّفها نظام العمل الذي يبث في نفوس موظفيه شعورا بالمهانة وعدم الاستحقاق.

ثقافة تقدس العمل وأخرى تسحق الموظفين

صحيح أن اليابان ليست البلد الوحيد الذي لا يميل أفراده إلى الإعلان عما يساورهم من قلق وضغط بشأن المكانة الاجتماعية أو المهانة التي يسببها لهم أرباب العمل، ولا هي الدولة الوحيدة أيضا التي شهدت زيادة ضخمة في العمالة المؤقتة، لكنها مع ذلك تنطوي على أوضاع أكثر تعقيدا مما قد يختبره الموظفون في الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى متقدمة. الحقيقة أن اليابان بلد يتمتع بثقافة تقدس العمل المستقر برواتب منتظمة، لدرجة أن الأشخاص الذين لا يستطيعون العثور على وظيفة منتظمة وثابتة -بغض النظر عن مؤهلاتهم- غالبا ما يتعرضون لانتقادات لاذعة قد لا يتعرض لها أقرانهم في بلدان أخرى.

تعليقا على ذلك، يقول “ريوسوك نيشيدا”، الأستاذ في معهد طوكيو للتكنولوجيا: “إن الميل العام أو الاتجاه السائد في اليابان هو عدم التردد في إلقاء اللوم فورا على الأشخاص الذين لم يتمكنوا من الحصول على وظيفة”. والسبب الآخر الذي قد يزيد الأمور تعقيدا في اليابان، هو أن الثقافة اليابانية تهتم كثيرا بالعمل الجاد وساعات العمل الطويلة، كما يُعتبَر من الوقاحة مغادرة عملك قبل رئيسك. حتى إن اشتكى الأفراد من الضغط الناجم عن ساعات العمل الطويلة، فإنهم لا يحصدون الكثير من التعاطف الذي قد يحتاجون إليه من الأصدقاء وأفراد الأسرة، فما بالك بالحكومة؟!

بجانب ذلك كله، تلعب النقابات العمالية في اليابان دورا ضعيفا، وغالبا ما ينصب جل اهتمامها على محاولة التعاون مع الشركات، وتتمحور أهدافها حول الحفاظ باستماتة على الوظائف الجيدة المتوفرة، بدلا من القتال نيابة عن جميع العمال. لذا، وفقا لـ”كونو”، فإن النقابات العمالية وظيفتها في اليابان خدمة الشركات لا العمال”. بيد أن هذه الأزمات طالت الولايات المتحدة أيضا بعدما ازداد انتشار الوظائف المؤقتة هناك، وبدأ دور النقابات العمالية يضعف تدريجيا عاما تلو الآخر.

أضف إلى ذلك أزمة التراجع في القطاع الصناعي، ووباء المواد الأفيونية (وهي ظاهرة إدمان المواد الأفيونية مثل المورفين والترامادول لأغراض غير طبية ولفترات طويلة بدون إشراف طبي)؛ ما أثر بالسلب على الوضع الاقتصادي للبلاد، وأعقبه انخفاض في نسبة الزواج، فضلا عن تراجع معدل الخصوبة في الولايات المتحدة بالفعل إلى أدنى مستوياته التاريخية، وقد يؤدي تدهور الظروف الاقتصادية إلى تفاقم الأزمة.

شينزو آبي

لحل الأزمة في اليابان وتهدئة الأوضاع قليلا، خصصت إدارة رئيس الوزراء “شينزو آبي” جزءا من انتباهها لحل مشكلة ارتفاع نسبة الوظائف المُجحِفة والمُسيئة دون رادع، لكن من وجهة نظر النقاد، فإن الإدارة لم تبذل جهدا كافيا لحل الأزمة. على الجانب الآخر، اقترحتْ لجنة حكومية على الشركات أن تضع حدا أقصى لعدد ساعات العمل الإضافية بحيث لا تزيد عن 100 ساعة في الشهر.

للمرة الأولى في البلاد، نشرت الحكومة اليابانية عام 2017 قائمة بأسماء أكثر من 300 شركة انتهكت قوانين العمل، على أمل أن يكون فضحها علنا وسيلة لإجبارها على تغيير أساليبها وتخفيف الضغط على موظفيها، لكن المشكلة الحقيقية هي أن إدارة آبي كانت مؤيدة للأعمال التجارية ومقدسة للعمل والفناء من أجله، لذا فإن محاولات الحكومة لإصلاح الأزمة -وفقا لكينغستون- لن تؤدي إلى أي تغيير جوهري.

في نهاية المطاف، تعهدت إدارة آبي منذ فترة طويلة بمعالجة أزمة انخفاض معدل المواليد في البلاد، كما ركزت العديد من تلك التعهدات على مساعدة النساء بصورة أفضل في تحقيق التوازن بين العمل والأسرة. صحيح أن معاناة النساء جزء من المشكلة، لكنها لا تمثل المشكلة بأكملها. فعلى الرغم من أن الرجال في اليابان يتمتعون بامتيازات اقتصادية واجتماعية تفوق ما تتمتع به النساء، فإنهم مع ذلك ما زالوا يفتقرون إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار في ظل اقتصاد لا تهدأ شراسته ولا تلين.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.